
لقد جرت عادة العلماء في كل فن من فنون العلم على البحث عن أسسه وأصوله ليتم بها الاستدلال على فروع العلم، ومتى استطاع الفنان أن يلم بمجمل الدلائل مع القدرة على التعامل معها، خرج من دائرة التقليد في الفروع، وهذا ما يسمى علميًا بمعرفة الأصول التي يتم من خلالها الحكم على الفروع.
وطريق التأصيل الفني بمعرفة الأسس الفنية وقيم الجمال هو الطريق الوحيد لإخراج فنانين ذوي ملكة فنية قادرين على الاستنباط والفهم، وأصبحت اليوم الحاجة ملحة لفهم التأصيل العلمي لفن الخط بعدما حصل الفراغ الفني في فترة الانحطاط وانقطاع السلسلة النظرية المكتسبة بالتلقي والمصاحبة، إضافة إلى غياب البيئات المناسبة لهذا التكوين.
ويعتبر التأصيل العلمي الطريق الأهم لبناء علمي محكم ورصين، وهو الوسيلة التي يستطيع من خلالها الخطاط أن يبلغ أمنيته بالتعبير الفني بلا تكلف ولا تقليد، مستعينًا بهذه الأصول التي هي بمثابة المرشد.
إن من يتأمل عالمنا الفني المعاصر سيرى التخبط والضياع والخلط، ابتداء من التقليد بلا علم وانتهاء بجعل ما يقلدونه مرجعًا أصليًا لفهم علوم الخط وأسسه. وتعدد منابع التلقي واختلاف الآراء والتصورات ناتج عن عدم وجود تأصيل كاف يكون بوصلة للباحثين والمهتمين.
امتلأت مكتباتنا بكتب الخط التي تبحث عن التاريخ والسيرة الفنية، وكل ينقل عن الآخر، واستفحلت الردود والخلافات في سنة ميلاد الخطاط ووفاته ورحلاته وتلاميذه، فضاعت الجهود وصُرِفت الهمم في غير محلها، فتكوّن لدينا جيل يقف بين تقليد المشق وحفظ سيرة الخطاط، لا يعرف الأصول من المشق، ولا يستطيع التعامل مع حالات جديدة للحرف إن طلب منه كتابة عبارة، فلا يبحث عند من سبقه هل كُتبت أم لا؟ فإن رآها قلدها، وإن لم يرها استعان بمن حوله في حلها، والعالم ينتظر منه تجديدًا في فهم علاقات الأحرف وتولدها.
إن علمًا كعلم الخط العربي لم يبق منه غير تاريخ يتناقله الناس لهو أمر مؤسف للغاية، يدعونا جميعًا إلى التفكير والاهتمام. وإن أهمية التأصيل تتأتى وتظهر عند رؤية هذا الاختلاف الكبير والكثير، إذ نرى أن المعاييرَ التي بُنِيت عليها هذه الاختلافاتُ مختلَفٌ فيها، ولولا التأصيل العلمي لكانت الجهود شذراتٍ متفرقة، تضيع في ظل الانفتاح المعرفي المتباين.
وتظهر أهمية التأصيل العلمي للفن إذا علمنا أن القناعات المشتركة بين العلماء تبين أن التأصيل العلمي هو العنصر الجوهري في نهضة الأمم، وهو السبب في بقاء وثبات العلوم في ظل التحديات التي تواجهها.
وإنني في هذه الكلمات لن أقف إلا في مقدمة المقدمة عن الأهمية التأصيلية لفن الخط، التي تقع على عاتقنا جميعًا، وهي همسة للجميع لعل هناك من يقرأ بعقله وقلبه قبل عينه، ويعرف الأهمية القصوى لما تطرقت له.