مقياس العمل الفني

الفنان صاحب علم مكتسب ومتراكم، فلا يمر عليه يوم إلا ويحصل على المعلومات عن طريق الأستاذ أو بالممارسة أو بالاختلاط مع الأقران، وهذا العمل يتراكم في عقله الذي يسعى من خلاله إلى إفراز هذه المعلومات على العمل الفني بكل ما يملك من خبرات في حياته الفنية. ومن يعرف سيرة الفنان لاسيما الخطاط، يعلم أن العلم المكتسب يحتاج إلى جهد كبير، وبحث مستمر، ودراية، ودربة. وعندما قلّت الثقافة الفنية في أوساط المجتمعات الإسلامية قلّ الشعور بقيمة العمل الفني وما يقدمه الفنان، فصارت المعادلة تتوقف عند الزمن الذي ينجز فيه الخطاط عمله الفني، فلو أنجز العمل في يوم كانت قيمته بقيمة يوم وهكذا.

وهذه النظرة القصيرة هي تراكم أيضًا من الانفلات الثقافي المخيف الذي طرأ على العالمين العربي والإسلامي بعد عصر الانحطاط المخيف الذي أهدرت فيه القيم والحضارة والثقافة.

والأصل في العمل الفني أن وقته هو وقت التراكم الفني من المعلومات عند الخطاط، فهو يسخّر كل ما تعلمه ليضعه في عمل فني يظهر من خلاله كل معلوماته وتجاربه الماضية فلا يترك معلومة إلا ولها بصمة في عمله الفني.

لهذا صارت اللوحة ختامًا لتراكم سنين، فمن كانت خبرته الفنية أو مسيرته الفنية عشرات السنين، فعمله الفني هو تكملة لهذا الزمن، ولو أكمل اللوحة في يوم مثلًا وخبرته الفنية أو مسيرته الفنية خمسة عشر سنة فهو في الحقيقة لم يكمل اللوحة أو يعملها في يوم، ولكنه عملها في خمسة عشر سنة ويوم، وهذا هو العمر الحقيقي الذي يجب أن تقاس فيه الأعمال الفنية، وليس الوقت الذي يضع فيه الخطاط خبرته الأخيرة في العمل.

وقد ذُكر عن شفيق رحمه الله أنه لما طُلب منه كتابة “دائرة أمور عسكرية” التي على بوابة رئاسة جامعة إسطنبول، انتهى من العمل في ثلاثة أيام، ولكنه طلب مبلغًا باهظًا مما دعا مسؤول العمل إلى رفع قضيته إلى السلطان، لكونه لا يستطيع أن يدفع هذا المبلغ الكبير لعمل في هذه الفترة القصيرة، وعندما التقى السلطان قال له: “كيف تطلب هذا المبلغ الكبير لعمل لم يتعد زمنه ثلاثة أيام؟” فأجاب: “أنا لم أعمله في ثلاثة أيام، ولكنني عملته في ثلاثين سنة وثلاثة أيام”، كما جاء في الرواية التي نقلت.

لقد وضع شفيق درسًا كافيًا لتقييم العمل الفني. ولست في صدد النهي أو الاستنقاص من الأعمال الفنية ذات الوقت الطويل وإنما بعكس ذلك، فالعمل الفني الطويل لا شك أنه يأخذ من الوقت الكثير، إضافة إلى الوقت الذي قضاه الخطاط في التعلم. فمن يعمل لوحته في سنة فالسنة تضاف إلى مسيرته الفنية وهكذا، ولكني وددت التنبيه إلى أن الوقت الخاص بتنفيذ اللوحة ليس بداية تعلم الخطاط وانتهاءه، ولكنه ظل يستريح فيه الخطاط من عناء البحث والتعلم والمشق، ليضع أجمل ما جنى في رحلته الجميلة.

د. زكي الهاشمي

ربما يعجبك أيضاً…

التغذية البصرية وأهميتها للخطاط

التغذية البصرية وأهميتها للخطاط

تمثل التغذية البصرية جانبًا مهمًا عند الخطاط، إذ تعتبر الوسيلة الأولى لحفظ الأشكال وتفاصيلها، التي تقوم العين بإرسال...

بين التقديس والأدب

بين التقديس والأدب

من المعلوم أن الإنسان يخطئ ويصيب، وهي سمة واضحة تتجلى في معاملة الناس لأنفسهم أو لبعضهم، وبهذه الصفة نزعت مسألة...

 المقالات والأخبار تعبر عن مصادرها