قيل في الأثر إن الخط مخفي في تعليم الأستاذ، فما هو الشيء المخفي من الخط؟
لقد جرت العادة في الطلب أن يتم بالتلقي خوفًا من التصحيف والفهم الضعيف، وجاءت الآثار بمجموعة من هذه الأقوال التي تشحذ الهمم لملازمة الأستاذ والاستفادة من علمه. فهناك علوم تفتقر إلى الضبط والمجالسة والسماع، ومن هذه العلوم التي تحتاج إلى ضبط فن الخط الذي يغلب عليه التطبيق العملي، حيث يرى الطالب كل تفاصيل الحركات وسير القلم وتحريفه وتدويره، ليصل إلى المعرفة الخطية. ولهذا اشتهرت عبارة أن الخط مخفي في تعليم الأستاذ.
والفنون لها أقسام عديدة؛ منها ما كتبت عنها شروحات مطولة، ومن تلك الفنون فنون سماعية كعلم النحو، فقد أُلفت فيه المؤلفات الطويلة والكثيرة وعلم القراءات والتجويد، ومنها الفنون البصرية التطبيقية كفن الخط، الذي كان يؤخذ بالتلقي العملي، فيصحح الأستاذ للطالب خطأه، وأثناء التصحيح يقوم بشرح القواعد لفظيًا مع الكتابة، فتتحد المعلومتان النظرية والسمعية، وبذلك انتقل الفن بالتلقي، ولم يكتب الشيء الكثير من الشروحات التي كانت تدور بين الأستاذ والطالب كما كتب في بقية الفنون.
وهذه الطريقة من التلقي لا تنقل كاملة مع مرور الزمن، فتضيع الكلمات والمعلومات شيئًا فشيئًا اجتهادًا ونسيانًا، ويحدث الانفصام الكبير بين الصورة والمعرفة، فانتقال الصورة ثابت بثبات وصولها إلينا عبر أمشاق سليمة رأيناها كما رآها من قبلنا، ولكن الشطر الآخر من المعرفة وهو التلقي العلمي والتفصيل العميق للطريق السليمة والحالات الفنية التي يتبعها القلم واليد للوصول إلى هذا الجمال هو الخيط الذي بات هزيلًا وكاد أن ينقطع فترة من الفترات، وفي هذه المرحلة عاد البعض بترميمه ولكن بخيوط هي أوهى من بيت العنكبوت مؤقتة التأصيل، ستنقطع إن لم يسع أهل الاختصاص في رأب الصدع.
لهذا باتت المعرفة الخطية -حتى وإن كانت ضعيفة- مرتبطة بارتباط التلميذ مع الأستاذ ومصاحبته مع طول الزمان والصبر، ليجني الطالب خفايا الحرف وأسراره وطريقة الكتابة وجملة من العلوم الفرعية بالنسبة لطالب الخط كعلم أدب الكتابة والإملاء والإنشاء والورق والحبر وغيرها.
ولأن الشطر الآخر من المقولة يحث الناس على المشق، والذي أعتبره هو المخرج الوحيد لرأب صدع الانقطاع العلمي والمعرفي في هذا الفن، فإن يجد تحضيرًا كيميائيًا جاهزًا لا يعرفه كيف تم تركيبه، لا شك أنه بين أمرين، إما أن يقوم بالتجربة تلو التجربة للوصول إلى العنصر المطلوب، فيجده يظهر بتجارب جديدة مفيدة مع العمل حتى وإن لم يصل إلى المطلوب، أو أن يستسلم ويقف مكتوف الأيدي يضع تخمينات ويتأسف على هذا الوضع دون أن يتقدم خطوة عملية معرفية.
والمشق يقوم مقام هذه التجارب، فهو ليس تمرين اليد على القواعد فحسب، إنه علم يقود الخطاط إلى الجمال وكفى. إن اليد التي تتمرن كثيرًا هي التي تبني نهضة فنية عميقة شاملة، تشمل اللوحة والفكر والتصميم والهندسة، وهذا أعمق وأكبر من موضوع الصنعة، لأن الصنعة هي تشكيل المشق وإظهاره كنموذج فني متطور له أركان وحدود، يشبه تمامًا كتابة القاعدة بعد شرح الفكرة العامة. والمشق الذي يقوم على التجرد والدوام والتكرار والمحاولة والشغف، هو المدرسة التي تصنع الرواد. كما أن اليد تعود على الحركات بأشكالها واتجاهاتها وحسن ترويض القلم وتحريكه كيفما أراد العقل، وهو ما يسعى إليه الفنان في نقل الصورة الداخلية للروح إلى الواقع، فالجمال موجود في باطن كل عقل وروح، ولكن تصوير الجمال يحتاج إلى ممارسة كبيرة.
ومن أهم الأسباب التي تعيق الخطاط عن تطوره في المشق ما يأتي:
1. تعدد أحجام الأقلام أثناء المشق وكثرة الألوان: فهي تقود إلى عدم الاستقرار النفسي الفني الذي يصل بالخطاط إلى اتحاده مع المشق والوصول إلى العشق الفني، وهو الشعور باللذة التي لا يخالطها التعب، ومعه ينسى الخطاط ما يدور حوله وكأنه يعيش في انفصام عن العالم السفلي المرتبط بالجسد، ليرتقي إلى العيش مع الأرواح. وهي رحلة تحتاج إلى وقت للوصول، فيلزمها استقرار المركب وليونة الطريق، وهذا ما لا يوجد في تعدد المقاسات والألوان التي تعيد الراكب إلى شعوره بنقطة البداية، فيشعر أنه لم يتقدم خطوة واحدة.
2. الكتابة من غير المحفوظ: فهي تشتت النظر بين المرجع وورقة المشق، فتحدث شيئًا من الإرباك والحركة التي تقيد روحك وإبداعك، والأفضل أن يمشق الخطاط مما يحفظ.
3. المفاخرة بالمشق: المشق ليس وسيلة استعراض على الأقران ومباهاة بين الخطاطين، ومن بيّت هذا المقصد قبل بدء المشق، فإن التوفيق يخطئه ولا ينال المقصد من فائدة المشق فتراه يكتب فيتعب سريعًا ويتعثر في الوصول.
4. المؤثرات الخارجية: وهي من أكبر العوائق التي تشتت الذهن وتقطع حبل المعرفة وتمنع الوصول، ولاسيما وسائل التواصل التي باتت تشارك الإنسان في كل تفاصيل حياته وتجالسه في كل وقت.