بين التقديس والأدب

من المعلوم أن الإنسان يخطئ ويصيب، وهي سمة واضحة تتجلى في معاملة الناس لأنفسهم أو لبعضهم، وبهذه الصفة نزعت مسألة التقديس للأشخاص أو الهيئات الناتجة عن تصرفات الناس ومخططاتهم، ولكن الوقوع في الخطأ ناتج عن نسيان أو تقصير أو سهو وغيره، أما إذا تعمد الإنسان الخطأ أو تسبب فيه عمدًا فهنا ينتقل الإنسان في الحكم عليه وربما يعاقب على تقصيره حتى لا يتسبب بضرر عليه أو على غيره، والناس أمام هذه الأخطاء انقسموا إلى قسمين: قسم جعل الأخطاء اجتهادات لا يمكن أن يصل الناس إلى كنهها أو مقاصدها، وتم التبرير لكل خطأ بحجة أو تأويل فوقعوا في التقديس الذي يجمد العقول ويحجر الأفكار، وقسم يتهافتون على كل صغيرة وكبيرة يتلقفونها بالإساءة ولا يحملون العذر لأحد حالهم كالذباب لا يقع إلا على الجروح، وقد قيل من ابتلي في الناس بالسلب، ابتلاه الله قبل موته بموت القلب.

يقتلون روح الخط وأصوله كل يوم، لتصبح شخصياتهم أصنامًا يدور حولها الخطاطون، تائهين باحثين عن القبلة الفنية التي ماتت تحت ركام أفعالهم.

يريدون أن يهربوا من التقديس فوقعوا في ترك الأدب، وبين التقديس والأدب يكمن الفرق بين الحضارة من عدمها والعلم من الجهل. ولو أسقطنا هذه المسألة على الواقع الفني والخط بالذات لرأينا المشاكل الكبيرة التي تحتاج إلى فهم التقديس والأدب لتخطيها. إن الواقع الذي نعيشه منحرف كثيرًا عن خط الاعتدال، فنرى التقدير والأدب من الصغير للكبير أو من المتعلم للعالم تقديسًا، وكذلك نرى أن من عدم التقديس ضعف الأدب مع الأستاذ والكبير، فخرجت لنا طائفة من الطلاب أوشكت أن تهدم الروابط الأخلاقية التي هي بركة العلم وثمرته.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَام ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ» والخط من العلوم التي تدخل ضمن هذا الفكر العام من الأدب. وقال عليه الصلاة والسلام: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ شَرَفَ كَبِيرِنَا». فطائفة من أهل الخط لا تعرف قدر نفسها، تتطاول على العلماء الأجلاء، والأئمة الأعلام (وإن أخطأوا) فتتكلم عنهم وتكتب بألفاظ غير محترمة، وطائفة تبالغ في تقدير خطاطيها، ولا ترضى أن يتكلم فيهم أحد، ولو كان كلامه نقدًا علميًا بنّاءً قائمًا على الإنصاف والاحترام مع مخالفتهم، وفي الوقت ذاته لا يجدون حرجًا في تخطئة غيرهم من الخطاطين الآخرين الذين يحظون بالقدر نفسه من الاحترام أو التقديس من قبل مدارس أخرى أو في أماكن أخرى. هذا التعصب واحد من الحُجُب التي تحجب الحقيقة عن طالبها، وواحد من موانع التفكير السديد الذي يسعى العقلاء للوصول إليه.

فيرى بعض الطلبة أن ظهور خطأ عند أستاذهم يعد نقصًا كبيرًا وعيبًا مشينًا، فيستميتون في الدفاع عنه ويبررون ويتأولون، والعجب أنهم يتركون المشق ويتفرغون للرد على بعضهم حتى ظهر ما نراه اليوم من سوء الحال وتدني مستوى التفكير الفني بسبب انشغال الفكر بأشياء كهذه. ولو عرفنا جيدًا أن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن الرجال يعرفون بالحق، لاستقمنا على طريقة من قبلنا في الإنتاج الفني الخالد وجمال الفكر.

د. زكي الهاشمي

ربما يعجبك أيضاً…

التغذية البصرية وأهميتها للخطاط

التغذية البصرية وأهميتها للخطاط

تمثل التغذية البصرية جانبًا مهمًا عند الخطاط، إذ تعتبر الوسيلة الأولى لحفظ الأشكال وتفاصيلها، التي تقوم العين بإرسال...

 المقالات والأخبار تعبر عن مصادرها