مما لا شك فيه أن العلم لا يحصل عفوًا وإنما بالتعلم، وهو قسمان:
القسم الأول: ما يكون إدراك المعلوم فيه ضروريًا فيعرف بلا نظر ولا استدلال كمعرفتنا بأن النار تُحْرِق.
القسم الثاني: علم يحتاج إلى نظر، واستدلال، واستقراء، وتتبع. وهذا القسم ينقل من جيل إلى جيل في الصدور والسطور.
وهو ما أقصده في حديثي هذا، فنعرف بعض طرق التلقي التي دأب عليها أهل العلم وطلابه. ويتم بالتلقي عن الأساتذة المشهود لهم بالضبط والإتقان، ويعرف عنهم ذلك بالإجازة أو الاشتهار. وطريق التلقي عن أهل العلم تكون بالسماع منهم أو القراءة عليهم.
وقد انقسمت العلوم إلى عدة أقسام، فمنها ما يُتَلقّى بالسماع كالتلاوة وتصحيح الأخطاء، ومنها ما يتلقى بالتطبيق والمشاهدة كالفنون وغيرها من العلوم التطبيقية. وكلما مر وقت، حصل الاجتهادُ في الوسائل، وصارت أقسام العلم علومًا مختلفة ظهرت مع ضعف الهمم وفتورها. فقد كان طلاب العلم يدرسون ما يسمونه بعلم اللغة، وهو علم يجمع أحد عشر أو اثني عشر فنًا من الفنون المتعلقة باللغة، ثم فترت الهمم فصار طالب العلم لا يستطيع أن يكمل علم النحو بمفرده، وهو أحد أقسام علوم اللغة الواسعة.
وفن الخط العربي أحد ضحايا هذه العلوم التي تلاشت فنونها مع ضعف الهمة وقلة الحيلة وأسباب الحياة المانعة. فمما لا شك فيه أن العلوم التطبيقية تحتاج إلى شرح مع التطبيق، وهذا الشرح والبيان لم يكن محل اهتمام -من الأساتذة- بتوثيقه وتدوينه لأسباب عدة، منها ضيق وقت الأستاذ وحرصًا على حضور الطالب، فيفهم من الكتاب عكس ما يُراد به. فكان هذا التلقي من قبل الطلاب ملازمًا للمشق الذي يقدمونه للتصحيح، ومضى فن الخط على هذا النحو إلا ما ندر.
ثم مر فن الخط العربي بمراحل انقطع فيها هذا الشرح الوافر الذي كان بمثابة البوصلة المهمة لتحديد مسار المشق وفهم مكنونه، لاسيما في الفترة التي كانت بعد سقوط الدولة العثمانية وما تمثلها من نهضة عصرٍ ذهبي لفن الخط، فاستمرت كتب المشق واللوحات تطوف بين أيدي المريدين، ولكن عن طريق التقليد والبحث الشخصي، إضافة إلى ما نُقل وبقي من الشروحات التي وصلتنا، ويبقى هناك الشيء الكثير الذي لم يصل لأسباب نعلمها أو لا نعلمها. إن الفن اليوم بحاجة إلى شروحات لفهمه أكثر من حاجتنا إلى أمشاق جاهزة.